الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال صاحب روح البيان: {الْحَمْدُ} الألف واللام لاستغراق الجنس واللام للتمليك والاختصاص إلى جميع أفراد المدح والثناء والشكر من كل حامد ملكتعالى ومخصوص به لا شركة لأحد فيه لأنه الخالق والمالك كما قال: {الَّذِى لَهُ} خاصة خلقًا وملكًا وتصرفًا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماته {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي: جميع الموجودات فإليه يرجع الحمد لا إلى غيره وكل مخلوق أجرى عليه اسم المالك فهو مملوك له تعالى في الحقيقة وإن الزنجي لا يتغير عن لونه لأن سمي كافورًا والمراد على نعمه الدنيوية فإن السموات والأرض وما فيها خلقت لانتفاعنا فكلها نعمة لنا دينًا ودنيا فاكتفى بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد أيضًا فيها وقد صرح في موضع آخر كما قال: {لَهُ الْحَمْدُ في الاولَى وَالاخِرَةِ} (القصص: 70) وهذا القول أي: الحمدالخ وإن كان حمدًا لذاته بذاته لكنه تعليم للعباد كيف يحمدونه {وَلَهُ الْحَمْدُ في الاخِرَةِ} بيان لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى أثر بيان اختصاص الدنيوي به على أن الجار متعلق إما بنفس الحمد أو بما تعلق به الخبر من الاستقرار وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليعم النعم الأخروية كما في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} (الزمر: 74) وقوله: {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} (فاطر: 35) الآية وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا} (الأعراف: 43) أي: لما جزاؤه هذا من الإيمان والعمل الصالح.يقال يحمده أهل الجنة في ستة مواضع:أحدها: حين نودي {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس: 59) فإذا يميز المؤمنون من الكافرين يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (المؤمنون: 28) كما قال نوح عليه السلام حين أنجاه الله من قومه.والثاني: حين جاوزوا الصراط قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (فاطر: 34).والثالث: لما دنوا إلى باب الجنة واغتسلوا بماء الحياة ونظروا إلى الجنة قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا} (الأعراف: 43).والرابع: لما دخلوا الجنة واستقبلتهم الملائكة بالتحية قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الذي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} (فاطر: 35).والخامس: حين استقروا في منازلهم قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ} (الزمر: 74).والسادس: كلما فرغوا من الطعام قالوا: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 1).والفرق بين الحمدين مع كون نعمتي الدنيا والآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ كما يتلذذ العطشان بالماء البارد لا على وجه الفرض والوجوب وقد ورد في الخبر: «إنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النَفَس».يقول الفقير: فيه نظر لأن الآخرة المطلقة كالعاقبة الجنة مع أن المقام يقتضي أن يكون ذلك من ألسنة أهل الفضل إذ لا اعتبار بحال أهل العدل كما لا يخفى {وَهُوَ الْحَكِيمُ} الذي أحكم أمور الدين والدنيا ودبرها حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة {الْخَبِيرُ} بليغ الخبرة والعلم ببواطن الأشياء ومكنوناتها ثم بين كونه خبيرًا فقال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرْضِ} الولوج الدخول في مضيق أي: يعلم ما يدخل فيها من البزور والغيث ينفذ في موضع وينبع من آخر والكنوز والدفائن والأموات والحشرات والهوام ونحوها وأيضًا يعلم ما يدخل في أرض البشرية بواسطة الحواس الخمس والأغذية الصالحة والفاسدة من الحلال والحرام. {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} كالحيوان من جُحره والزرع والنبات وماء العيون والمعادن والأموات عند الحشر ونحوها وأيضًا ما يخرج من أرض البشرية من الصفات المتولدة منها والأعمال الحسنة والقبيحة. {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء} كالملائكة والكتب والمقادير والأرزاق والبركات والأمطار والثلوج والبرد والأنداء والشهب والصواعق ونحوها وأيضًا ما ينزل من سماء القلب من الفيوض الروحانية والإلهامات الربانية. {وَمَا يَعْرُجُ} يصعد {فِيهَآ} كالملائكة والأرواح الطاهرة والأبخرة والأدخنة والدعوات وأعمال العباد.ولم يقل إليها لأن قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) يشير إلى أن الله تعالى هو المنتهى لا السماء ففي ذكر في إعلام بنفوذ الأعمال فيها وصعودها منها.وأيضًا وما يعرج في سماء القلب من آثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى. {وَهُوَ الرَّحِيمُ} للحامدين ولمن تولاه {الْغَفُورُ} للمقصرين ولذنوب أهل ولايته فإذا كان الله متصفًا بالخلق والملك والتصرف والحكمة والعلم والرحمة والمغفرة ونحوها من الصفات الجليلة فله الحمد المطلق والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من جهة التعظيم من نعمة وغيرها كالعلم والكرم وأما قولهم الحمدعلى دين الإسلام فمعناه على تعليم الدين وتوفيقه والحمد القولي هو حمد اللسان وثناؤه على الحق بما أثنى به بنفسه على لسان أنبيائه والحمد الفعلي هو الإتيان بالأعمال البدنية ابتغاء لوجه الله والحمد الحالي هو الاتصاف بالمعارف والأخلاق الإلهية والحمد عند المحنة الرضى عن الله فيما حكم به وعند النعم الشكر فيقال في الضراء الحمد على كل حال نظرًا إلى النعمة الباطنة دون الشكرخوفًا من زيادة المحنة لأن الله تعالى قال: {لَئن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7) والحمد على النعمة كالروح للجسد فلابد من إحيائها وأبلغ الكلمات في تعظيم صنع الله وقضاء شكر نعمته الحمدولذا جعلت زينة لكل خطبة وابتداء لكل مدحة وفاتحة لكل ثناء وفضيلة لكل سورة ابتدئت بها على غيرها.وفي الحديث «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم» أي: أقطع فله الحمد قبل كل كلام بصفات الجلال والإكرام:وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما رفع رأسه صلى الله عليه وسلّم من الركوع قال: «سمع الله لمن حمده» فقال رجل وراءه: ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه فلما انصرف قال: «من تكلم آنفًا» قال الرجل: أنا قال: «لقد رأيت بضعًا وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أولًا» وإنما ابتدرها هذا العدد لأن ذلك عدد حروف هذه الكلمات فلكل حرف روح هو المثبت له والمبقي لصورة ما وقع النطق به فبالأرواح تبقى الصور وبنيات العمال وتوجهات نفوسهم ترتفع حيث منتهى همة العامل وللملائكة مراتب منها مخلوقة من الأنوار القدسية والأرواح الكلية ومنها من اَلأعمال الصالحة والأذكار الخالصة بعضها على عدد بعض كلمات الأذكار وبعضها على عدد حروف الأذكار وبعضها على عدد الحروف المكررة وبعضها على عدد أركان الأعمال على قدر استعداد الذاكرين وقوتهم الروحية وهمتهم العلية.وفي الحديث المذكور دليل على أن من الأعمال ما يكتبه غير الحفظة مع الحفظة ويختصم الملأ الأعلى في الأعمال الصالحة ويستبقون إلى كتابة أعمال بني آدم على قدر مراتبهم وتفصيل سر الحديث في شرح الأربعين لحضرة الشيخ الأجل صدر الدين القنوي قدس سره. اهـ..قال عبد الكريم الخطيب: 34- سورة سبأ:نزولها: مكية عدد آياتها: أربع وخمسون آية.عدد كلماتها: ثمانمائة وثمانون كلمة.عدد حروفها: أربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.مناسبة السورة لما قبلها ختمت سورة الأحزاب السابقة بهذه الآية الكريمة: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.ثم كانت الآية التي بعدها تعقيبا عليها.. فكأنّها وما بعدها آية واحدة.وفي هذه الآية أو الآيتين، بيان لمقام الإنسان في هذا الوجود، وأنه الكائن الذي استقلّ وحده بحمل أمانة التكليف من بين الكائنات جميعها.. وإنه لن يمسك به في مقامه هذا إلا الإيمان باللّه، إيمان وعى، وإدراك، وفهم، لجلال اللّه وعظمته، وقدرته، وماله من تصريف في ملكه، لا معقب له، ولا شريك معه.وتبدأ سورة سبأ بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} تبدأ بهذا الاستفتاح بحمد اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض.وكأنها بهذا الاستفتاح تضع بين يدى الإنسان المفتاح الذي يحفظ به ما استودع من أمانات اللّه.. وهو حمد اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض.فحمد اللّه، هو ثمرة الإيمان باللّه، والمعرفة بجلاله، وعظمته، وما له في ذات الإنسان، من آيات الإحسان، وسوابغ النعم.. فمن آمن باللّه حق الإيمان، كان لسان ذكر وحمد وشكر، للّه ربّ العالمين، وذلك فيما يرى على ضوء هذا الإيمان من فضل اللّه، وإحسانه.قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الحمد للّه من اللّه سبحانه، هو حمد لذاته من ذاته.. فهو سبحانه المستحق للحمد، وإن لم ينطق بذلك لسان.. فالوجود كلّه مسبح بحمده سبحانه، إذ كان الوجود- في ذاته- نعمة، على أية صورة كان عليها الوجود، وعلى أي وضع قام عليه.. فهو خروج من عدم.. والعدم سلب، والوجود وجو.الوجود شيء، والعدم لا شيء.. والوجود صفة من صفات اللّه، به تتحقق ذاتية الذات، وتتحدد ماهيته.. ومن هنا كان.. الحمد للّه، تسبيح كل موجود وصلاة كل مخلوق: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (44: الإسراء) وفي قوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} إشارة إلى ما استوجب اللّه سبحانه وتعالى من حمد فوق حمد الوجود، وهو حمد البعث، بعد الموت، الذي هو أشبه بوجود جديد للإنسان، وإمساك به من الذهاب إلى العدم الذي كان وشيكا أن ينتهى إليه بعد الموت.وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} إشارتان.. إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، الذي ملك هذا الوجود بسلطانه المطلق، لم يكن في هذا السلطان المطلق جور، أو استبداد، لأنه سلطان في يد الحكيم الذي أحسن كل شيء خلقه، وأقامه في المقام المناسب له.. والإشارة الأخرى إلى سوء ظن الكافرين والمشركين، وأهل الضلال، باللّه سبحانه وتعالى، وقصور إدراكهم لما للّه سبحانه وتعالى من علم، وأنهم لو علموا بعض ماللّه من قدرة، وعلم، وسلطان، لخافوا بأسه، ولما جرءوا على عصيانه، إذ لا يجرؤ على مخالفة أمر ذى الأمر، والخروج على سلطان ذى السلطان، إلا من وقع في تصوره أن عين صاحب الأمر لا تراه، أو أن سلطان ذى السلطان لا يقدر عليه.. وهذا ما يشير إليه قال تعالى: {وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} (22- 23: فصلت) قال تعالى: {يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماء وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}.هذه الآية، هي شرح وبيان لصفة {الخبير} التي وصف الحق بها ذاته، في قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}.فالخبير، هو العالم علما كاشفا لكل شىء.. وعلم اللّه هو العلم الكامل كمالا مطلقا، حيث تنكشف به حقائق الأشياء كلها، إذ كان كل شيء هو صنعة اللّه، من مبدأ وجود المخلوق إلى كل ما يطرأ عليه من تبدل وتحول في كل لحظة من لحظات الزمن.. ولهذا وصف علم اللّه بالخبرة، إذ كان علما عاملا، بحيث لا يقع شيء في الوجود إلا عن علم، وعن تقدير بمقتضى هذا العلم.. فكان علمه سبحانه على هذا التمام والكمال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14: الملك)- وفي قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها}. إشارة إلى بعض علم اللّه، فيما بين أيدى الناس، وهو هذا العالم الأرضى الذي يعيشون فيه.فهذه الأرض، يعلم اللّه سبحانه ما يلج فيها، أي ما ينفذ إلى باطنها، ويتسرب إلى أعماقها.. فالولوج معناه دخول الشيء في الشيء، ومنه قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} فهو سبحانه يعلم كل حبّة في باطن الأرض، ويعلم مستقرها ومستودعها، ويعلم سبحانه ما يجرى في باطن الأرض من ما.كذلك- ومن باب أولى في حسابنا- يعلم سبحانه ما يخرج من الأرض من نبات، وما يتفجر من عيون.وفي قوله تعالى: {وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماء وَما يَعْرُجُ فِيها} إشارة أخرى إلى علم اللّه سبحانه بما فوق هذا العالم الأرضى، وهو السماء.. فهو سبحانه يعلم ما ينزل من السماء من ماء، وملائكة، وهو يعلم ما يعرج في السماء، أي ما يصعد إليها من عالم الروح الذي نزل إليه.وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} إشارة إلى أن ما يلج في الأرض وما يخرج منها، هو هذه الرحمة التي تنزل ماء من السماء، فتلج في الأرض، فتخرج منها حبّا ونباتا وجنات ألفافا.. وفي هذا حياة كل حىّ، طعاما وشرابا.. ثم إشارة أخرى إلى ما ينزل من السماء من آيات اللّه وكلماته، يحملها أمين الوحى إلى المصطفين من عباد اللّه لرسالته، فيكون فيها حياة الأرواح، وتزكية النفوس.. ثم إشارة ثالثة إلى ما يعرج في السماء، ويصعد إليها من أعمال النّاس.. وقليل منها طيب، وكثير هو الخبيث.. ومع هذا، فإن اللّه سبحانه لا يمسك رحمته عن النّاس، ولا يعجل لهم الجزاء، بل يوسع لهم من مغفرته ورحمته، فيغفر للمذنبين التائبين، ويرحم العصاة الفارّين بذنوبهم إلى اللّه: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}. اهـ..قال ابن عاشور: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}.افتتحت السورة ب {الحمد لله} للتنبيه على أن السورة تتضمن من دلائل تفرده بالإِلهية واتصافه بصفات العظمة ما يقتضي إنشاء الحمد له والإِخبار باختصاصه به.فجملة {الحمد لله} هنا يجوز كونها إخبارًا بأن جنس الحمد مستحَق لله تعالى فتكون الّلام في قوله: {لله} لام الملك.ويجوز أن تكون إنشاء ثناء على الله على وَجه تعليم الناس أن يخصوه بالحمد فتكون اللام للتبيين لأن معنى الكلام: أحمد الله.وقد تقدم الكلام على {الحمد لله} في سورة الفاتحة، وتقدم الكلام على تعقيبه باسم الموصول في أول سورة الأنعام وأول سورة الكهف.وهذه إحدى سور خمس مفتتحة ب {الحمد لله} وهنّ كلها مكية وقد وضعت في ترتيب القرآن في أوله ووسطه، والربع الأخير، فكانت أرباع القرآن مفتتحة بالحمد لله كان ذلك بتوفيق من الله أو توقيف.واقتضاء صلة الموصول أن ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى يجعل هذه الصلة صالحة لتكون علة لإِنشاء الثناء عليه لأن مِلكه لما في السماوات وما في الأرض ملك حقيقي لأن سببه إيجادُ تلك المملوكات وذلك الإِيجادُ عمل جميل يستحق صاحبه الحمد، وأيضًا هو يتضمن نعمًا جمة.وهي أيضًا تقتضي حمد المنعِم، لأن الحمد يكون للفضائل وللفواضِل؛ فما في السموات فإن منه مهابط أنوار حقيقية ومعنوية، فيها هدى حسِّي ونفساني، وإليه معارجَ للنفوس في مراتب الكمالات التي بها استقامة السِيَر، وإزالةُ الغِيَر، ونزول الغيوث بالمطر.وما في الأرض منه مسارح أنظار المتفكرين، ومنابت أرزاق المرتزقين، وميادين نفوس السائرين.وفي هذه الصلة تعريض بكفران المشركين الذين حمدوا أشياء ليس لها في هذه العوالم أدنى تأثير ولا لَها بما تحتوي عليه أدنى شعور، ونَسُوا حمد مالكها وسائر ما في السماوات والأرض.وجملة {وله الحمد في الآخرة} عطف على الصلة، أي والذي له الحمد في الآخرة، وهذا إنباء بأنه مالكُ الأمر كله في الآخرة.وفي هذا التحميد براعة استهلال الغرض من السورة.وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي لا حمد في الآخرة إلا له، فلا تتوجه النفوس إلى حمد غيره لأن الناس يومئذٍ في عالم الحق فلا تلتبس عليهم الصور.واعلم أن جملة: {الحمد لله} وإن اقتضت قصر الحمد عليه تعالى قصرًا مجازيًا للمبالغة كما تقدم في سورة الفاتحة بناء على أن حمد غير الله للاعتداد بأن نعمة الله جرت على يديه، فلما شاع ذلك في جملة {الحمد لله} وأريد إفادة أن الحمد لله مقصور عليه تعالى في الآخرة حقيقة غيرت صيغة الحمد المألوفة إلى صيغة {له الحمد} لهذا الاعتبار، وهذا نظير معنى قوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]، فالمعنى: أن قصر الحمد عليه في الآخرة أحق لأن التصرفات يومئذٍ مقصورة عليه لا يلتبس فيها تصرفُ غيرهِ بتصرفه.ولما نيط حمده في الدنيا والآخرة بما اقتضى مرجعَ التصرفات إليه في الدارين أعقب ذلك بصفتي {الحكيم الخبير} لأن الذي أوجد أحوال النشأتين هو العظيم الحكمة الخبير بدقائق الأشياء وأسرارها.فالحكمة: إتقان التصرف بالإِيجاد وضده، والخبرة تقتضي العلم بأوائل الأمور وعواقبها.والقرن بين الصفتين هنا لأن كل واحدة تدلّ على معنى أصلي ومعنى لزومي، وهما مختلفان، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع لأن الحكيم مشتق من الإِحكام وهو الإِتقان، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء منها، وهو يستلزم التمكن من تصريفها، ففي التتميم بهذين الوصفين إيماء إلى أن المقصود من الجملة قبله استحماق الذين أقبلوا في شئونهم على آلهة باطلة. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}.بيان لجملة {وهو الحكيم الخبير} [سبأ: 1] لأن العلم بما ذكر هنا هو العلم بذواتها وخصائصها وأسبابها وعللها وذلك عين الحكمة والخبرة، فإن العلم يقتضي العمل، وإتقانُ العمل بالعلم.وخص بالذكر في متعلِّق العلم ما يلج وما يخرج من الأرض دون ما يَدِبّ على سطحها، وما ينزل وما يعرج إلى السماء دون ما يجول في أرجائها لأن ما ذكر لا يخلو عن أن يكون دَابًّا وجائلًا فيهما، والذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم ما يدبّ عليها وما يزحف فوقها، والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج يعلم ما في الأجواء والفضاء من الكائنات المرئية وغيرها ويعلم سير الكواكب ونظامها.والولوج: الدخول والسلوكُ مثل ولُوج ماء المطر في أعماق الأرض وولوج الزريعة.والذي يخرج من الأرض، النبات والمعادن والدواب المستكنة في بيوتها ومغاراتها، وشمل ذلك من يُقبرون في الأرض وأحوالهم.والذي ينزل من السماء: المطر والثلج والرياح، والذي يعرج فيها ما يتصاعد في طبقات الجو من الرطوبات البحرية ومن العواصف الترابية، ومن العناصر التي تتبخر في الطبقات الجوية فوق الأرض، وما يسبح في الفضاء وما يطير في الهواء، وعروجُ الأرواح عند مفارقة الأجساد قال تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4].واعلم أن كلمتي {يلج} و {يخرج} أوضح ما يُعَبَّر به عن أحوال جميع الموجودات الأرضية بالنسبة إلى اتصالها بالأرض، وأن كلمتي {ينزل} و {يعرج} أوضح ما يعبَّر به عن أحوال الموجودات السماوية بالنسبة إلى اتصالها بالسماء، من كلمات اللغة التي تدل على المعاني الموضوعة للدلالة عليها دلالةً مطابقية على الحقيقة دون المجاز ودون الكناية، ولذلك لم يعطف السماء على الأرض في الآية فلم يقل: يعلم ما يلج في الأرض والسماء، وما يخرج منهما، ولم يُكتَفَ بإحدى الجملتين عن الأخرى.وقد لاح لي أن هذه الآية ينبغي أن تجعل من الإِنشاء مثل ما اصطلح على تسميته بصراحة اللفظ.ولذلك ألحقتها بكتابي أصول الإنشاء والخطابة بعد تفرق نسخه بالطبع، وسيأتي نظير هذه في أول سورة الحديد.ولما كان من جملة أحوال ما في الأرض أعمال الناس وأحوالهم من عقائد وسير، ومما يعرج في السماء العمل الصالح والكَلم الطيّب أتبع ذلك بقوله: {وهو الرحيم الغفور} أي الواسع الرحمة والواسع المغفرة.وهذا إجمال قصد منه حث الناس على طلب أسباب الرحمة والمغفرة المرغوب فيهما، فإن من رغب في تحصيل شيء بحث عن وسائل تحصيله وسعى إليها.وفيه تعريض بالمشركين أن يتوبوا عن الشرك فيغفر لهم ما قدموه. اهـ.
|